ربما يظن البعض أن الذكاء العاطفي هو مهارة صغيرة أو جانبية، لكن الحقيقة عكس ذلك، فالأشخاص الذين يتمتعون بمستوى عال من الذكاء العاطفي، تكون لديهم القدرة على خلق جو إيجابي في العمل مبني على الاحترام والتفاهم والتعاون، الشيء الذي ينعكس إيجابًا على إنتاجية فريق العمل ويساهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة ويزيد من أرباحها. لذا أصبح أصحاب الشركات يتهافتون على توظيف موظفين بمهارات شخصية قوية، إذ إن المهارات التقنية وحدها لم تعد كافية أمام التحديات الجديدة المرتبطة بمشاكل التواصل وغيرها، خصوصًا بالنسبة للفرق الافتراضية الموزعة جغرافيًا والمختلفة ثقافيًا، أو بالنسبة لتلك الصعوبات التي تواجه المستقلين أصحاب الأعمال الحرة على الإنترنت.
يقول دانيال جولمان مؤلف كتاب الذكاء العاطفي، بأن البحث العلمي والتقدم الطبي والتكنولوجي في السنوات الأخيرة شكلت عوامل مساعدة للباحثين للتعرف أكثر على الإنسان، وأصبح ممكنًا بفعلها إجراء تجارب حسية وتتبع وقياس ما كان يعد غامضًا فيما سبق، كمشاعر الإنسان اللامرئية وكيفية تفاعلها مع العقل وتأثيرها على السلوك الظاهري.
يضيف جولمان أن العواطف هي التي أرشدت الجنس البشري وما زالت ترشده أثناء مواجهته للمآزق والمهام الصعبة، فمشاعر الخوف من الموت أنقذت الكثير ولولاها لما صارعنا المخاطر من أجل البقاء منذ العصور الأولى.
من هذا المنطلق، عرف جولمان الذكاء العاطفي بأنه الرابط الذي يجمع بين الذكاء والعاطفة بحيث يصبح الفرد قادرًا على إدراك مشاعره ومعرفة وإدارة حالته العاطفية وعواطف الأشخاص من حوله.
فالأفراد الذين يمتلكون هذه المهارة يستطيعون فهم ما يشعرون به، وما تعنيه عواطفهم، وكيف يمكن لها أن تؤثر وتتفاعل مع مشاعر الآخرين. وبذلك فهم يمتلكون مفتاح النجاح في الحياة المهنية والاجتماعية، إذ إنهم قادرون على الحفاظ على هدوئهم واتزانهم في المواقف العصيبة، كما أنهم يتعاملون مع الشخصيات الصعبة بلباقة ودبلوماسية، عكس الأشخاص ذوي الذكاء العاطفي المنخفض الذين ينزعجون بسهولة ويغرقون في المشاعر السلبية ويفتقدون للحزم.
بتعبير آخر الذكاء العاطفي هو ما قصده أرسطو حين قال " المهارة النادرة على أن تغضب من الشخص المناسب بالقدر المناسب في الوقت المناسب وللهدف المناسب"
يتكون الذكاء العاطفي من أربعة مستويات مختلفة، تتمثل فيما يلي:
يزيد الذكاء العاطفي من قدرة المرء على:
يمثل مكان العمل مجتمعًا اجتماعيًا متميزًا ، منفصلًا عن الحياة الشخصية، إذ يسمح الذكاء العاطفي العالي للشخص بفهم نفسه والآخرين بشكل أفضل، والتواصل بفعالية أكبر، والتعامل مع المواقف الصعبة. وتتمثل فائدته بالنقاط التالية:
في العمل، يكون هناك تواصل مستمر بين الزملاء والمشرفين والعملاء وجميع المعنيين، والعملاء المحتملين، وإن تمتع الأشخاص بمهارات الذكاء العاطفي يخلق تفاعلات إيجابية.
يكون الأفراد في بيئة العمل (من المتدربين إلى المديرين) ذوي الذكاء العاطفي العالي، أكثر قدرة على العمل بشكل متماسك داخل الفرق، والتعامل مع التغيير بفعالية أكبر، وإدارة الإجهاد، وبالتالي التمكّن من المتابعة بكفاءة، وتحقيق أهداف العمل.
عندما يتمتع الموظف بقدرات تساعده على فهم قوي لمشاعره، وكيفية فهم وتعديل مشاعر الآخرين، هذا يمكّنه من تحفيز الآخرين، ويمنحه القدرة على مساعدة زملاء العمل على أن يصبحوا أكثر إنتاجية وأن يخرجوا أفضل ما لديهم.
يتضمن القدرة على مساعدة الآخرين من خلال المواقف المتوترة، وإبراز الخلافات بلباقة في العلن، وتحديد الحلول التي يمكن أن يؤيدها الجميع، من خلال الاهتمام بكيفية استجابة الآخرين لبعضهم البعض.
مستوى الذكاء المرتفع لدى الموظفين هو سمة مرغوب فيها لأنها ترفع من مستوى الأداء الوظيفي، ولذا أصبحت من المهارات الأساسية التي يضعها أصحاب الأعمال بالاعتبار عند اختيار فريق العمل، وعلى ذلك فإن امتلاك مستوى عال من الذكاء العاطفي قد يفتح الأبواب أمام مناصب وفرص وظيفية جديدة.
ينقسم الذكاء العاطفي إلى خمس مهارات وهي كالتالي:
الإدراك الذاتي هو المكون الأول للذكاء العاطفي فلا يمكن فعل أي شيء وتطويره للأفضل، في غياب الوعي للذات. والإدراك الذاتي هنا يشمل الوعي التام بطبيعة مشاعر الفرد وقيمه الداخلية ومدى تناغم أفعاله وسلوكياته مع قيمه وما يؤمن به. فالأشخاص الذين يتمتعون بحس عال من الإدراك الذاتي، يسعون دائمًا وراء اكتشاف ذاتهم، ويحللون الأمور التي تحدث في حياتهم، وتكون لهم دراية بمواطن القوة والضعف لديهم، كما أنهم يعترفون بأخطائهم ويتصالحون مع ذواتهم.
ومن الأشياء التي يمكن أن تساعد في تطوير هذه الملكة:
يطلق عليه أيضًا مصطلح التحكم الذاتي self control، ويعكس التنظيم الذاتي قدرة الشخص على معالجة مشاعره، وضبطها بحيث يصبح أكثر قدرة على احتواء انفعالاته في أوقات الأزمات. الأشخاص الذين يطورون هذه المهارة يكونون مرنين مع الظروف ويتكيفون بشكل جيد مع التغيير، كما يكون بإمكانهم التركيز والتفكير بوضوح حتى وإن مروا بأحلك المواقف. ومن الخطوات العملية التي تساعد على تطوير هذا الجانب:
التحفيز الذاتي هو الدافع الداخلي الذي يدفع الفرد إلى الإنجاز وإلى تحويل الأفكار والخطط إلى أعمال ملموسة. في الأوقات التي يواجه الشخص فيها مشاكل وعوائق، يكون التحفيز الداخلي هو الدافع الذي يلهمه ويحثه على مواصلة العمل. فالأشخاص أصحاب المستوى التحفيزي العالي هم من أهم العناصر الإيجابية في فريق العمل، لأن رغبتهم الداخلية في الإنجاز وتحقيق أهداف المشروع تنعكس إيجابًا على جميع أعضاء الفريق.
يساهم إدراك وتنظيم العواطف في خلق جو إيجابي لتطوير التحفيز ومن أهم العوامل المساعدة:
تعد القدرة على التعاطف مع الآخرين من المكونات الأساسية للذكاء العاطفي. فالأشخاص الذين يتمتعون بهذه المهارة يكون بإمكانهم فهم وإدراك مشاعر الأشخاص المحيطين بهم، ويمتلكون القدرة على رؤية الأشياء من وجهات نظر مختلفة وبذلك يتمتعون بنظرة ثاقبة وشمولية.
ومن العوامل التي يمكن أن تساعد على تنمية هذه المهارة:
تعد القدرة على التفاعل بشكل جيد مع الآخرين جانبًا مهمًا آخر من جوانب الذكاء العاطفي. إذ يساعد امتلاك مهارات اجتماعية قوية الأشخاص على بناء علاقات إيجابية وهادفة مع المحيطين بهم، وتطوير فهم أقوى لأنفسهم والآخرين. فلا يقتصر الذكاء العاطفي على فهم مشاعرنا ومشاعر الآخرين فقط. بل يستلزم أيضًا أن يكون الشخص قادرًا على استخدام هذه المعلومات والمهارات بحنكة في تواصلاته اليومية.
ومن الأشياء التي تساعد في تطوير المهارات الاجتماعية ما يلي:
تظهر أهمية الذكاء العاطفي في بيئة العمل، ومن أهم الأمثلة التي تعكس إيجابيات هذه المهارة لدى الموظفين النقاط التالية:
هل سبق لك أن كنت في اجتماع وأحسست بالفوضى العارمة، وبصعوبة التواصل فالكل يريد أن يستفرد لرأيه ولا يسمح للأطراف الأخرى أن تعبر عن نفسها، وما إن يبدأ شخص آخر في التحدث حتى يقاطعه لتكون له الكلمة الأخيرة، هذا الوسط يدل على نقص الذكاء العاطفي لدى الموظفين، بعكس الأوساط الإيجابية التي يسمح فيها للأشخاص بالتحدث، ويستمع الآخرون لهم، دون مقاطعة مستمرة، فهذه علامة جيدة على وجود مستوى عالي من الذكاء العاطفي لدى الأفراد، الشيء الذي سيؤدي إلى نتيجة إيجابية في نهاية الاجتماع.
الدافع الإبداعي هو دافع قوي؛ يجد طريقًا للتحرر مهما حبسته. من الناحية المثالية، يتجسد الوعي بأهمية الذكاء العاطفي، عندما يتوفر الوقت والمساحة والحرية للموظفين من أجل أن يبدعوا.
يمكن أن يساعد التحدث إلى زملاء العمل أو أصحاب العمل بوضوح واحترام، في إظهار الذكاء العاطفي. فالحذر من الكلمات التي تُستخدم، والتأني لفهم مشاعر الزملاء قبل التحدث، قد يؤدي ذلك إلى محادثات أكثر إنتاجية ويساعد على بناء علاقات أقوى. أيضًا إن تجنب الإدلاء بتعليقات سلبية أو انتقادية التي تقلل من الروح المعنوية، هي ممارسات للذكاء العاطفي.
الدافع الاجتماعي لدى الناس هو عامل قوي أيضًا. وهناك مظاهر عديدة تكشف عن مستوى مرتفع من الذكاء الاجتماعي بين الموظفين كتناولهم الغداء معًا خارج أوقات العمل، أو كونهم يستقلون نفس وسيلة المواصلات للوصول للعمل، كل هذه علامات على السلوك الاجتماعي الإيجابي لأشخاص يجدون المتعة في صحبة بعض، مما يساعد على إبعاد التوتر عن فريق العمل، ويساهم في إنشاء جو عمل إيجابي.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل الذكاء العاطفي مهارة فطرية أم مكتسبة؟ الإجابة أن هذه المهارة يمكن أن تكون فطرية عند بعض الناس كما يمكن اكتسابها بالتمرين والتربية، وقد ظهرت في العديد من الدول برامج للتدريب العاطفي تتبع وسائل وطرق مستوحاة من علم النفس، من أجل تنمية هذه المهارة لدى الأطفال فيما يعرف ببرامج التعليم أو التدريب الاجتماعي والعاطفي social and emotional learning.
لكن كيف يمكننا كأشخاص العمل على أنفسنا من أجل تطوير وتنمية الذكاء العاطفي خصوصًا في بيئة العمل؟
وضع الباحثون والمدربون من مجموعة من الاستراتيجيات التي تساهم في رفع من مستوى الذكاء العاطفي، والتي يمكنها أن تساعد الموظف من رفع مستوى ذكائه العاطفي، أهمها مايلي:
يقطع التواصل الواضح شوطًا طويلًا في كسب الاحترام دون أن يظهر على أنه عدواني جدًا أو سلبي جدًا. يعرف الأشخاص الأذكياء عاطفيًا يتقنون كيفية توصيل آرائهم واحتياجاتهم بطريقة مباشرة مع استمرار احترام الآخرين.
تكون عادةً الانفعالات العاطفية في حالات الصراع ومشاعر الغضب أكثر شيوعًا. والذكي عاطفيًا هو الشخص الذي يعرف كيف يبقى هادئًا أثناء المواقف العصيبة. ولا يتخذ قرارات متهورة يمكن أن تؤدي إلى مشاكل أكبر. يعلم تمامًا أن الهدف في أوقات النزاع هو الحل، ويركز في أفعاله وكلماته بما يتماشى مع ذلك.
يركز الأشخاص الأذكياء عاطفيًا على الوضوح بدلًا من مجرد الكلام. يتطلب الذكاء العاطفي الفهم قبل الرد، مع الانتباه لكافة التفاصيل بما فيها لغة الجسد لمنع سوء الفهم، والحصول على الاستجابة بشكل صحيح.
خاصةً في بيئة العمل، وتتمثل في عدم التسرع في الحكم قبل معرفة الحقائق، وتفهّم وجهات نظر الآخرين وسماع آرائهم والتعاطف مع احتياجاتهم.
إذ توجد العديد من الاختبارات النفسية التي تطورت من أجل حساب مستوى الذكاء العاطفي لدى الأفراد، وخضوع الفرد لاختبار مثل هذا سيساعده على اكتشاف نقاط ضعفه وقوته مما سيمكنه من اتخاذ إجراءات عملية لتطوير نفسه.
يمكن ذلك من خلال مثلًا تقديم اعتذار مباشر للشخص الذي جرحت مشاعره وعدم تجاهل ذلك، فعادةً ما يكون الناس أكثر استعدادًا للتسامح والنسيان عند المحاولة الصادقة لتصحيح الأمور.
إذا كان قرارك سيؤثر على الآخرين، ضع نفسك مكانهم. كيف سيشعرون إذا فعلت هذا؟ هل تريد فعلًا خوض هذه التجربة؟ وإن كان لا بد من خوضها، فكيف يمكن مساعدة الآخرين على التعامل مع الآثار الناجمة عنها.
وفي الختام، يعد الذكاء العاطفي مهارة حيوية للتواصل بين الأشخاص، وقد أصبح مجال اهتمام عبر تخصصات متعددة، بما في ذلك مكان العمل.
ينتج الموظفون الذين يتعاملون مع الذكاء العاطفي عمومًا مزايا في تطورهم الوظيفي، ويقدمون مميزات فعالة في المؤسسات والشركات وبيئات العمل المختلفة. تعمل الفرق المكونة من أفراد أذكياء عاطفيًا على تحسين العلاقات داخل الفريق وتساعد على توليد ثقافة عمل إيجابية، مما يزيد من الإنتاجية وكفاءة الأداء.